الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أَمَّا قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} فَالظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَاهُ الْمُتَبَادَرِ عِنْدِي أنه نُودِيَ وَهُوَ قَائِمٌ يَدْعُو بِذَلِكَ الدُّعَاءِ الَّذِي ذُكِرَ هُنَا مُخْتَصَرًا، وَذُكِرَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ بِأَطْوَلَ مِمَّا هُنَا، فَالصَّلَاةُ دُعَاءٌ وَالدُّعَاءُ صَلَاةٌ، وَقَدْ عَطَفَ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْفَاءِ وَحِكَايَةُ مَا قَبْلَهُ صَرِيحَةٌ فِي كَوْنِ الدُّعَاءِ وَقَعَ فِي الْمِحْرَابِ الَّذِي كَانَتْ مَرْيَمُ فِيهِ، فَقَوْلُ الرَّازِيِّ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ عِنْدَهُمْ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَيُّ دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ وَلَا دُعَاءَ؟ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى أَيْ بِوَلَدٍ اسْمُهُ يَحْيَى كَمَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [19: 7] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ إنَّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ النِّدَاءَ قَوْلٌ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْبَاءِ، أَيْ نَادَتْهُ بِأَنَّ اللهَ يُبَشِّرُهُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْبِشَارَةَ مَحْكِيَّةٌ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، فَمَا هُنَا لَا يُنَافِي مَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ مِنَ التَّفْصِيلِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {يُبْشُرُكَ} كَيَنْصُرُكَ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، ويَحْيَى تَعْرِيبٌ لِكَلِمَةِ يُوحَنَّا فِي لُغَةِ بَنِي إسرائيل، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ الْحَيَاةِ، فَالِاسْمُ يُشْعِرُ بأنه يَحْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً بِأن يكون وَارِثًا لِوَالِدِهِ وَمِنْ آلِ يَعْقُوبَ مَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْفَضْلِ، وَقَدْ وَصَفَ تعالى هَذَا الْمُبَشَّرَ بِهِ بِعِدَّةِ صِفَاتٍ وَرَدَتْ حَالًا مِنْهُ وَهِيَ قوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} أَمَّا تَصْدِيقُهُ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ فَهُوَ تَصْدِيقُهُ بِعِيسَى الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ بِهِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أَوِ الَّذِي يُولَدُ بِكَلِمَةِ اللهِ {كُنْ فَيَكُونُ} [36: 82] أَيْ بِغَيْرِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي تَوَالُدِ الْبَشَرِ، وَهِيَ أَنْ يُولَدَ الْوَلَدُ بَيْنَ أَبٍ وَأُمٍّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلِمَةِ هُنَا الْكِتَابُ أَوِ الْوَحْيُ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا السَّيِّدُ: فَهُوَ مَنْ يَسُودُ فِي قَوْمِهِ بِالْعِلْمِ أَوِ الْكَرَمِ أَوِ الصَّلَاحِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ. وَالْحَصُورُ وَصْفُ مُبَالَغَةٍ مِنْ مَادَّةِ الْحَصْرِ، وَمَعْنَاهَا: الْحَبْسُ، فَهُوَ مَنْ يَحْبِسُ نَفْسَهُ وَيَمْنَعُهَا مِمَّا يُنَافِي الْفَضْلَ وَالْكَمَالَ اللَّائِقَ بِهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَتُومِ لِلْأَسْرَارِ وَعَلَى مَنْ يَمْتَنِعُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْعِنَّةِ أَوْ لِلْعِفَّةِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا؛ وَلِذَلِكَ بَحَثُوا فِي كَوْنِ تَرْكِ التَّزَوُّجِ أَفْضَلَ مِنْ فِعْلِهِ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الرَّازِيُّ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ النِّكَاحِ أَفْضَلُ، وَنَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا وَلَا ظَاهِرَةً فِي ذَلِكَ، وَإِذَا سَلَّمْنَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّزَوُّجِ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ يَحْيَى بِأَفْضَلَ مِنْ أَبِيهِ وَلَا مِنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَلَا مِنْ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَسُنَّةُ النِّكَاحِ أَفْضَلُ سُنَنِ الْفِطْرَةِ لِأَنَّهَا قِوَامُ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَسَبَبُ بَقَاءِ الْإِنْسَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللهُ وَخَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى فِي عِلْمِ اللهِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ نَبِيًّا مَعْرُوفٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فَمَعْنَاهُ أنه مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الصَّالِحِينَ أَوْ مِنَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ وَهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ.{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} قَالُوا: إِنَّ السُّؤَالَ لِلتَّعَجُّبِ، وَأَكْثَرُوا فِي ذَلِكَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَفْضَلُ مَا قِيلَ فِيهِ. وَلِبَعْضِهِمْ كَلَامٌ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَلَا يَمْنَعُ مَانِعٌ مَا أن يكون الِاسْتِفْهَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأن يكون قَدْ قَالَهُ تَشَوُّفًا إِلَى مَعْرِفَةِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْإِنْتَاجُ مَعَ عَدَمِ تَوَفُّرِ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ لَهُ بِكِبَرِ سِنِّهِ وَعُقْرِ زَوْجِهِ قَالَ تعالى وَالظَّاهِرُ أنه بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَإِنَّهُ مَتَى شَاءَ أَمْرًا أَوْجَدَ لَهُ سَبَبَهُ، أَوْ خَلَقَهُ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ لَا يَحُولُ دُونَ مَشِيئَتِهِ شَيْءٌ، فَعَلَيْكَ أَنْ تُفَوِّضَ الأمر إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ عَلَامَةً تَتَقَدَّمُ هَذِهِ الْعِنَايَةَ وَتُؤْذِنُ بِهَا، وَمِنْ سَخَافَاتِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ الَّتِي أَوْمَأْنَا إِلَيْهَا آنِفًا زَعْمُهُمْ أَنَّ زَكَرِيَّا عليه السلام اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَحَيُّ الْمَلَائِكَةِ وَنِدَاؤُهُمْ بِوَحْيِ الشَّيَاطِينِ؛ وَلِذَلِكَ سَأَلَ سُؤَالَ التَّعَجُّبِ، ثُمَّ طَلَبَ آيَةً لِلتَّثَبُّتِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الَّذِي شَكَّكَهُ فِي نِدَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَقَالَ لَهُ: أنه مِنَ الشَّيْطَانِ. وَلَوْلَا الْجُنُونُ بِالرِّوَايَاتِ مَهْمَا هَزُلَتْ وَسَمُجَتْ لَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَكْتُبَ مِثْلَ هَذَا الْهُزْءِ وَالسُّخْفِ الَّذِي يَنْبِذُهُ الْعَقْلُ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ يَرْوِي مِثْلَ هَذَا إِلَّا هَذَا لَكَفَى فِي جَرْحِهِ، وَأَنْ يُضْرَبَ بِرِوَايَتِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَعَفَا اللهُ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ إِذْ جَعَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مِمَّا يُنْشَرُ.{قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} قِيلَ مَعْنَاهُ: أَنْ تَعْجِزَ عَنْ خِطَابِ النَّاسِ بِحَصْرٍ يَعْتَرِي لِسَانَكَ إِذَا أَرَدْتَهُ، وَيُرَجِّحُهُ أَنَّ الْآيَةَ تَكُونُ بِغَيْرِ الْمُعْتَادِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ مُخْتَارًا لِتَفْرُغَ لِعِبَادَةِ اللهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ رِوَايَاتٌ سَقِيمَةٌ فِيهِ، مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عُقُوبَةٌ عَاقَبَهُ اللهُ تعالى بِهَا أَنْ طَلَبَ الْآيَةَ بَعْدَ تَبْشِيرِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ لِسَانَهُ رَبَا فِي فِيهِ حَتَّى مَلَأَهُ، وَمِثْلُ هَذَا السَّخَفِ لَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا لِأَجْلِ رَدِّهِ عَلَى قَائِلِهِ وَضَرْبِ وَجْهِهِ بِهِ. وَفِي إِنْجِيلِ لُوقَا أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِزَكَرِيَّا (1: 20) وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ هَذَا لِأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلَامِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ.وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصَّوَابُ أَنَّ زَكَرِيَّا أَحَبَّ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يَتَعَيَّنَ لَدَيْهِ الزَّمَنُ الَّذِي يَنَالُ بِهِ تِلْكَ الْمِنْحَةَ الْإِلَهِيَّةَ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ، وَيُبَشِّرَ أَهْلَهُ. فَسَأَلَ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَلَمَّا أُجِيبَ بِهِ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَخُصَّهُ بِعِبَادَةٍ يَتَعَجَّلُ بِهَا شُكْرَهُ وَيَكُونُ إِتْمَامُهُ إِيَّاهَا آيَةً وَعَلَامَةً عَلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ. فَأُمِرَ بِأَلَّا يُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، بَلْ يَنْقَطِعُ لِلذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ مَسَاءً صَبَاحًا مُدَّةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامً، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى خِطَابِ النَّاسِ أَوْمَأَ إِلَيْهِمْ إِيمَاءً، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ بِشَارَتُهُ لأهلهِ بَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ اللَّيَالِي. وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّمْزِ هَلْ كَانَ بِالْقَوْلِ الْخَفِيِّ وَتَحَرِّيكِ الشَّفَتَيْنِ أَمْ بِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْضَاءِ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَالرَّأْسِ وَالْيَدَيْنِ؟ لِأَنَّ الرَّمْزَ وَالْإِيمَاءَ يَكُونُ بِكُلِّ ذَلِكَ. وَالْعَشِيُّ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ. وَقِيلَ: مِنَ الْغُرُوبِ إِلَى ذَهَابِ صَدْرٍ مِنَ اللَّيْلِ. قَالَ الرَّاغِبُ: مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى الصَّبَاحِ. وَالْإِبْكَارُ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الضُّحَى. اهـ.
كان الشاعر قد سمى ابنه يحيى أملا أن يحيا، ولكن الله لم يرد ذلك، فمات الابن. لماذا؟ لأن المسمىِّ من البشر ليس هو الذي يُحْيِي، إن المسمى إنسان قدرته عاجزة، ولكن المحيى له طلاقة القدرة، فحين يسمى من له طلاقة القدرة على إرادة أن يحيا فلابد من أن يحيا حياة متميزة؟ وحتى لا تفهم أن الحياة التي أشار الله إليها بقوله: {اسمه يحيى} بأنها الحياة المعروفة للبشر عادة- لأن الرجل حينما يسمى ابنه يحيى يأمل أن يحيا الابن متوسط الأعمار، كما يحيا الناس ستين عاما، أو سبعين، أو أي عدد من السنوات مكتوبة له في الأزل.لكن الله حينما يسمى يحيى فانه لا يأخذ يحيى على قدر ما يأخذه الناس، بل لابد أن يعطيه أطول من حدود أعمار الناس، ويهيء له الحق من خصومه ومن أعدائه من يقتله ليكون شهيدا، وهو بالشهادة يصير حيا، فكأنه يحيا دائما، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.وهكذا أراد الله ليحيى عليه السلام أن يحيا كحياة الناس، ويحيا أطول من حياة الناس إلى أن تقوم الساعة، وأيضا نأخذ ملحظا في أن زكريا حينما بُشِّر بأن الله سيهبه غلاما ويسميه يحيى، نجده قد استقبلها بالعجب. كيف يستقبل زكريا مسألة الرزق بالولد متعجبا مع أنه رآها في الرزق الذي كان يجده عند مريم؟ {يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.ولنا أن نقول: أكنت تحب أن يمر مثل هذا الأمر الخارق للعادة والخارق للناموس على سيدنا زكريا كأنه أمر عادي لا يندهش له ولا يتعجب؟ لا، لابد أن يندهش ويتعجب لذلك قال: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ}. فكأن الدهشة لفتته إلى أنه ستأتي آية عجيبة، ولو لم تكن تلك الدهشة لكانت المسألة رتيبة وكأنها أمر عادي. إذن، فهو يلفتنا إلى الأمر العجيب الذي خصه الله به. وأيضا جاءت المسألة على خلاف ناموس التكاثر والإنجاب والنسل: {وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}.إن المسألة كلها تفضل وهبة من الله.فلما جاءته البشارة، لم يقل الله له: إنني سأهبك الغلام واسمه يحيى من امرأتك هذه، أو وأنت على حالتك هذه. فيتشكك ويتردد ويقول: أترى يأتي الغلام الذي اسمه يحيى منى وأنا على هذه الحالة، امرأتي عاقر وأنا قد بلغت هذا الكبر، أو ربما ردنا الله شبابا حتى نستطيع الإنجاب، أو تأتي امرأة أخرى فأتزوجها وأنجب.إذن فالعجب في الهيئة التي سيصير عليها الإنجاب فقوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقد بلغني الكبر وامْرَأَتِي عَاقِرًا} هذا التساؤل من زكريا يهدف به إلى معرفة الهيئة أو الحالة التي سيأتي بها الإنجاب، لأن الإنجاب يأتي على حالات متعددة. فلما أكد الله ذلك قال: كذلك ماذا تعني كذلك؟ إنها تعني أن الإنجاب سيأتي منك ومن زوجك وأنتما على حالكما، أنت قد بلغت من الكبر عتيا، وامرأتك عاقر. لأن العجيبة تتحقق بذلك، أكان من المعقول أن يردهما الله شبابا حتى يساعداه أن يهبهما الولد؟ لا. لذلك قال الحق: {كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}. أي كما أنتما، وعلى حالتكما.لقد جعل الحق الآية ألا يكلم زكريا الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة، وقد يكون عدم الكلام في نظر الناس مرضا لا، أنه ليس كذلك، لأن الحق يقول له: {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} إن الحق يجعل زكريا قادرا على التسبيح، وغير قادر على الكلام. وهذه قدرة أخرى من طلاقة قدرة الله، أنه اللسان الواحد، غير القادر على الكلام، ولو حاول أن يتكلم لما استطاع، ولكن هذا اللسان نفسه- أيضا- يصبح قادرا فقط على التسبيح، وذكر الله بالعشيّ والإبكار، ذكر الله باللسان وسيسمعه الناس، وذلك بيان لطلاقة القدرة.وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى مسألة أخرى تتعلق بمريم، لأن مريم هي الأصل في الكلام، فالرزق الذي كان يأتيها من الله بغير حساب هو الذي نبه سيدنا زكريا إلى طلب الولد، وجاء الحق لنا بقصة زكريا والولد، ثم عاد إلى قصة مريم: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ الله اصْطَفَاكِ}. اهـ.
|